قصيدة فتح عمورية
( أبو تمام )
شرح بعض أبيات القصيدة
إن أبا تمام لا يفاجئ قارئه بكل ما حشد في أبيات عمورية من أفكار ومعان وصور وزينات ولعب بالألفاظ والأسطر فحسب ولكنه يطلع عليه باستهلال غير مألوف إنه لم يقف بالأطلال ولم يَشْكُ الجوى وإنما استهل قصيدته بالسيف وصدق تنبئاته بالنصر ، وكان المنجمون قد تنبئوا بأن المعتصم لن يربح المعركة ، فكان تحدي الخليفة الفارس أقوال المنجمين وافتتح البلدة التي بدت مستعصية وأنزل بالروم من الخسائر والقتلى والهزائم والحرائق ما لم يشهدوا له مثيلاً من قبل ، فكان ذلك دافعاً لأبي تمام أن يستهل قصيدته في مدح المعتصم ووصف المعركة بهذا الاستهلال الجليل .
في وحده الحد بين الجد واللعب | السيف أصدق أنباءً من الكتب |
أي أن النصر العظيم الذي ظفر به العرب في عمورية يشهد بأن السيف أصدق من كتب المنجمين فحده القاطع يفصل بين الحقيقة والخرافة .
مونهن جلاء الشك والريب | بيض الصفائح لاسود الصحائف في |
السيوف البيضاء اللامعة تزيل الشك والظنون وتقرر الحقيقة والنصر المبين أما المنجمين فكذب وخداع .
بين الخميسين لا في السبعة الشهب | والعلم في شهب ألارماح لامعةًً |
العلم بنتائج الحروب يلتمس ويطلب بالأسلحة التي يقاتل فيها المحاربون لا في الشهب السبعة التي أعتمد عليها المنجمون .
صاغوه من زخرف فيها ومن كذب | أين الرواية أم أين النجوم وما |
أخذ هنا يسخر من المنجمين فتسائل في تهكم وسخرية أين ما زعمه المنجمون وأين كواكبهم التي اختلقوا عنها الأكاذيب .
عنك المنى حفلاً معسولة الحلب | يا يوم وقعة عمورية انصرفت |
أيها اليوم العظيم ما أروعك فقد تحققت آمال العرب الحافلة بالسعادة فيك وتركت في النفوس أثراً حسناً وذلك لأن الجيش الإسلامي رجع منصوراً محققاً أمانيه ( شبه الأماني بضروع الناقة المملوءة باللبن الحلو الطعم ).
( المفاضلة بين السيف والكتاب )
استهل أبو تمام بالمقطع حكمي عام المفاضلة بين الكتاب والسيف رامزاً بالأول إلى المنجمين وبالثاني إلى القتال والحرب ويقع في هذه الخمس أبيات عرض للمعاني التالية :
أ. إن السيف ينيء عن الحقيقة، فيما تكثر الكتب أو توهم بها وهو الذي يؤدي إلى الجد واليقين، فيما تخادع الكتب وتبقيك بين الظن والتصديق والجد واللعب
ب. إن الواقع كذب المنجمين الذين نصحوا المعتصم بأن يرجئ زحفه، فقد حاصر المدينة وقضى على أهلها مظهراً أن القوة تخرس وتدحض وتحقق
|
أبقيت جدّ بني الإسلام في صعد |
وكانت النتيجة أن استمر حظ المسلمين في الارتفاع والانتصار بينما أصاب دار الشرك الانحدار والحزن بسبب الهزيمة التي حلّت بهم .
للنار يوماً ذليل الصخر والخشب | لقد تركت أمير المؤمنين بها |
يا أمير المؤمنين المعتصم كان يومك في عمورية يوماً شديداً على عدوك، وكانت نارك التي أوقدوها العرب لإحراق البلد شديدة حتى أحرقت وأذلت الصخور بعد أن أحترق الخشب.
يشله وسطها صبح من اللهب | غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى |
وكان ضوء النار يبدد ويطرد الظلام في عموريه المحترقة حتى كأن الصبح كان يطلع فيها في ذلك الحين .
عن لونها أو كأن الشمس لم تغب | حتى كأن جلابيب الدجى رغبت |
وكأن ثياب الليل كرهت لونها الأسود، أو كأن الشمس مازالت مشرقة تنير سماء المدينة .
عرض المضمون (التغني بالفتح)
يقول إنه فتح لا يضاهى ولا يوصف بشعر أو نثر . فهو يعجز البيان ويثير الفرح حتى في السماء، فتشرع أبوابها له فضلاً عن الأرض التي ترتدي منه أبهى حلل الزهر ولقد أترع الأماني فجعلها معسولة، عذبة، لأنها تحققت فيه وغدت واقعاً، انتصر به المسلمون وانهزم به المشركون
|
ضوء من النار والظلماء عاكفة |
وكأن ضوء النار المتوهج في الليل، الضحى الذي شحب من كثافة ما ثار من دخان الحرائق .
لله مرتقب في الله مرتغب | تدبير المعتصم بالله منتقم |
لقد صنع هذا النصر الخليفة المعتصم بالله والمنتقم لله ( غزا أرض الروم لأنهم نكثوا عهد الله بالسلام ) وهو مرتقب في الله ( عمل ما عمل وهو حريص على ألا يخالف أوامر الله في شيء ) وهو مرتغب في الله ( راغب في هذه الحرب في ما يرضي الله وفي ما يقربه إلى الله ).
إلا تقدمه جيش من الرعب | لم يغز قوماً ولم ينهض إلى بلد |
إنه يخيف الأعداء، فإذا تحرك لحرب كان الرعب يدخل على الأعداء قبل أن يصلهم المعتصم، فكأنه يطّير إليهم جيشاً من الرعب قبل أن يصل هو .
من نفسه وحدها في جحفل لجب | و لم يقد جحفلاً يوم الوغى لغدا |
لو لم يعد الخليفة المعتصم لهذه الحرب جيشاً جراراً وذهب ليقاتل بمفرده لكان هو بمثابة هذا الجيش الجرار .
- أنها أمهم الكبرى، يحرصون عليها ويفتدونها بأنفسهم .
- أنها فتاة مخدرة، حاول أن يقتحم عليها كسرى من قبل وأتباعه اليمن، فتعصت عليهم، وبقيت عذراء، لم يقوَ عليها أي من الفاتحين. فالإسكندر ذاته ارتدّ عنها، وبقيت على الزمن، حصينة، لم تهزم ولم يعترها الوهن.
- إنها زبده الأيام، أي صفوتها، إذ جمع الدهر فيها جوهرة القوة والمنعة .
|
ولو رمى بك غير الله لم تصب | رمى بك الله برجيها فهدمها |
إن الله تعالى سخرك ( أيها الخليفة ) لتهديم عمورية فقدرت على ذلك ( في سبيل الله ) ولو أردت من غزوها عرضاً من أعراض الدنيا لما استطعت ذلك .
والله مفتاح باب المعقل ألا شب | من بعد ما أشبهوها واثقين بها |
حصّن العدو مدينته وبالغ في ذلك مما دعاه للوثوق بأنها لا تفتح، ولكنها فتحت لأن الله هو الذي أراد فتحها على يد المعتصم .
جلودهم قبل نضج التين والعنب | تسعون ألفاً كأسد الشّرى نضجت |
سقط في هذه المعركة تسعون ألفاً من فرسان الروم الشجعان الذين يشبهون أسود الشرى المعروفة ببأسها. وماتوا حرقاً في عموريه قبل أن ينضج التين والعنب أي قبل حلول الصيف .
جرثومة الدين والإسلام والحسب | خليفة الله جازى الله سعيك عن |
فجزاؤك أيها الخليفة على الله لأنك بعملك هذا سعيت لإعلاء الحق وهو الإسلام ولإعلاء أمجاد العرب وحسبهم أيضاً.
تنال إلا على جسر من التعب | بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها |
وعرفت أن السعادة التامة والراحة القصوى لا تنال إلا بعد عناء وتعب وتضحية .
موصولة أو ذمام غير منقطع | إن كان بين صر وف الدهر من رحم |
هذا وإذا اعتقدنا أن الأحداث لها علاقة مع بعضها البعض وتلك العلاقة موصولة ذات عهد غير منقطع .
وبين أيام بدر أقرب النسب | فبين أيامك اللاتي نصرت بها |
فالعلاقة واضحة بين فتح عمورية التي انتصرت فيها أيها الخليفة وبين معركة بدر العظمى التي قادها الرسول صلى الله عليه وسلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق