المكان: العاصمة الرواندية كيجالي
الزمان: الساعة الثامنة والنصف من مساء السادس من إبريل 1994
دقائق بعد أن ذاع خبر مقتل الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمانا إثر استهداف طائرة كانت تقله ونظيره البوروندي سيبريان نتارياميرا وثمانية آخرين بصاروخ، وألقى متشددو الهوتو باللائمة على أعضاء الجبهة الوطنية التي تضم متمردين من عرقية التوتسي. اسُتنفرت كل الأحقاد التاريخية وبدأت أبشع مذبحة عرقية في القرن العشرين. ميلشيات الهوتو وعلى رأسها الانتراهموي قتلت في 100 يوم فقط قرابة 800 ألف من أبناء عرقية التوتسي. طرق القتل عكست كمية الحقد. فقع الأعين بالمسامير وتمزيق بطون الحوامل والصلب وقطع الرقاب بالسواطير، ناهيك عن خمسين ألف امرأة تم اغتصابهن، قبل أن يتم دفنهن أحياء.
كان بإمكان ما يُوصف بالعالم المتحضر أن يمنع الكارثة قبل وقوعها. الإبادة تم التحضير لها بعناية قبل ذلك التاريخ بمدة ليست بالقصيرة. روميو دالير القائد الكندي لقوات حفظ السلام الأممية في رواندا عكف طوال أشهر على إرسال رسائل للأمم المتحدة يحذر فيها من خطر مجزرة قادمة. بعث رسالة تلكس مشفرة إلى الأمم المتحدة في 11 يناير 1994 أي قبل وقوع المجزرة بـ3 أشهر عن مخابئ أسلحة سرية ولوائح اغتيالات وفِرَق موت يتم الإعداد لها من قبل متشددي الهوتو. وطالب رؤساءه في قسم عمليات حفظ السلام، برئاسة أمين عام الأمم المتحدة اللاحق وقتها كوفي عنان بإرسال قوة تدخل سريع مكونة من أربعة آلاف جندي لحفظ الأمن ووأد المجزرة في مهدها.. لم يستجب أحد.
وعندما بدأت أنباء المجزرة تتصدر عناوين نشرات الأخبار أعلنت الولايات المتحدة أنها لن تكرر ما حدث في الصومال ولن ترسل جنودًا للتدخل الميداني. بلجيكا بدورها اكتفت بإجلاء 3500 من الرعايا الأجانب من العاصمة الرواندية، قبل أن تسحب قواتها المشاركة في بعثة حفظ السلام إثر مقتل 10 جنود بلجيكيين برفقة رئيسة الوزراء الرواندية أجاثا أويلينجييمانا. حتى عندما قامت الجبهة الوطنية بإحراز انتصارات في مواجهة ميلشيات الانتراهاموي، تدخلت القوات الفرنسية عسكريًا، فيما عُرف لاحقًا بعملية تركواز، لتدعيم موقف الهوتو والحد من تقدم الجبهة قبل أن تساعد على توفير ممرات آمنة لتهريب آلاف من عناصر الميلشيات المسلحة التي شاركت في المجازر إلى الجارة الكونغو.
سُدت جميع سُبل النجاة أمام التوتسي بعد تواطؤ المجتمع الدولي. ظنوا أن بإمكانهم كخيار أخير اللجوء للكنائس طلبًا للحماية. الهوتو والتوتسي في النهاية يتقاسمان نفس العقيدة المسيحية الكاثوليكية، وبالتأكيد لن يُقدم رجال الدين المسيحي حتى وإن كانوا من الهوتو على تسليمهم للميلشيات. ظنهم كان خطأ بالمرة. سقط الإيمان المسيحي أمام التمايز العرقي. شارك القساوسة والراهبات من الهوتو في قتل من احتمي بالكنائس من أبناء دينهم من التوتسي وسلموا الباقي في خمس مناطق لميلشيات الانتراهاموي.
ماري تيوبيستا موكاروبيبي.. راهبة كاثوليكية، قادت عناصر من ميلشيات الهوتو إلى أديرة كان يختبئ بها آلاف التوتسي. لم تكتف بذلك قامت بنفسها بنزع أنابيب المصل من المرضى التوتسي ومنعت تقديم الطعام إلى المرضى، ومن بينهم أطفال ونساء حوامل.. حُكم عليها في يونيو 2006 بالسجن ثلاثين عامًا.
الكاهن أثاناس سيرومبا.. أعطى الأمان في 16 أبريل 1994 لثلاثة آلاف من التوتسي للاحتماء بكنيسته الواقعة في سهول نيانج غرب رواندا. صدقوا كلماته ولم تمض بضع ساعات حتى أوصد باب الكنيسة من الخارج، وسارع باستدعاء ميلشيات الانتراهاموي، التي هدمت الكنيسة على من فيها، ولم ينج سوى بضع عشرات.. يقضي الآن عقوبة المؤبد بعد إدانته من قبل محكمة العدل الدولية.
القس فرانسوا بازارمبا..أدين في 2007 من قبل محكمة فنلندية بتعذيب وقتل 300 من التوتسي فضلًا عن إرشاد متطرفي الهوتو عن 2200 فارين من التوتسي احتموا بكنيسته نياكتزو.. حُكم عليه بالمؤبد في أغلى عملية محاكمة تمت على الأراضي الفنلندية بتكلفة ناهزت مليوني دولار على إثر استجلاب 80 شاهدا من رواندا وتنزانيا.
واحد من كل عشرة من ضحايا الإبادة لقي حتفه داخل كنيسة كاثوليكية. ولم يتبق شاهد على عواقب انحراف السلطة الدينية المسيحية سوى متحفي نتاراما ونياماتا في مقاطعة بواجسيرا. كلاهما كانا كنيستين كاثوليكيتين، الأولى قُتل فيها حرقًا ورميًا بالرصاص قرابة 4000 من التوتسي، والثانية لقي فيها أكثر من 5000 من التوتسي حتفهم ضربًا بالمناجل والسواطير. ولم يعد في كلتيهما سوى آثار لجمجمة اخترقتها رصاصة من الخلف، ورأس جُزت بفأس، وخصلة شعر أمّ في فم طفلها المُهشم، ورسالة على الحائط خطتها يد مرتعبة لبنت تودع صديقتها.
في وسط كل تلك الموجة من الجنون والتطرف الديني كان المسلمون وحدهم من لم يشاركوا في المجزرة رغم انتماء معظمهم لعرقية الهوتو. القيادات السياسية للمجتمع الإسلامي في رواندا ممثلة في جماعتي أمور وأنصار الله، تجاوزت كل ما بينها من خلافات وأعلنت من البداية عدم التورط في النزاع العرقي. عموم المسلمين فتحوا مساجدهم وبيوتهم للتوتسي المسيحيين، كانت هناك نداءات تبث من الإذاعة المحلية تحض المسلمين على تسليم (الخنازير) التي احتمت بمساجدهم، لم يستجيبوا. تعرضوا للقتل بسبب مواقفهم. لم يحيدوا عنها.
«المسلم لم يشترك في المجزرة لأنه مسلم.. رابطة الإخوة الإسلامية كانت تسمو على الروابط العرقية والقبلية».. كلمات باستور بتسمونجو أول رئيس لرواندا عقب الإبادة. ليست الإشادة فقط هي كل ما جناه المسلمون من مواقفهم الشجاعة والأخلاقية أثناء الإبادة الرواندية. تعداد المسلمين ارتفع من 6% إلى 15% من مجموع السكان المقدر بحوالي 8,5 مليون نسمة. ومع الموجة الكبيرة في تحول المسيحيين الكاثوليك إلى الإسلام تضاعف عدد المساجد بدوره مرتين ونصف في نفس الفترة ليصل إلى 500 مسجد. كما أوردت صحيفة نيويورك تايمز في مقالها المنشور بتاريخ 7 إبريل 2004 للكاتب مارك ليسي والمعنون بـSince '94 Horror, Rwandans Turn Toward Islamمنذ رعب 1994، رواندا تتحول إلى الإسلام.
الرئيس الرواندي لم يكتف بكلمات الإشادة بدور المسلمين في ذاك اللقاء، طلب منهم أيضًا تعليم الروانديين ثقافة التسامح. تلقف الشيخ صالح هابيمانا مفتي رواندا الدعوة وبدأ الجهاد. جهاد من نوع خاص عبر عنه للصحفية اميلي واكس في مقالها المنشور في صحيفة الواشنطن بوست بتاريخ 23 سبتمبر 2002 بعنوان Islam Attracting Many Survivors of Rwanda Genocide الإسلام يجذب مزيدًا من الناجين من الإبادة الرواندية. «جهادنا هو محو الجهل بين الهوتو والتوتسي، وأن نبدأ احترام بعضنا بعضا وأن نعيش كروانديين وكمسلمين». وبدأ في سبيل ذلك مؤتمر للحوار الإسلامي-المسيحي لنشر قيم التسامح وإقرار قيم العدالة الاجتماعية وتقديم 60 ألفا من المتورطين في المجازر إلى المحاكم الشعبية المعروفة بالجاتشاشا.
سيقولون إن الإسلام مَضطهد وما هبوا بطريقتهم الدموية إلا دفاعًا عنه.. سيملأون الدنيا ضجيجًا بحديث انتشار الإسلام الذي لن يتحقق إلا بالجماجم.. سيعيدون على مسامعك مرارًا وتكرارًا أن الجهاد سيف وفرس وقلوب تؤكل ورقاب تُجز.. سيطلبون منك الاطمئنان لمسلكهم والتأييد انتظارًا لنصر لن يأتي.. سيخبرونك بهذا وأكثر منه.
لكن سيتجاهلون أن أكبر موجة اعتناق للإسلام في القرن العشرين في أمة كاثوليكية متزمتة، لم تكن بالقتل والتخريب والتشريد والسبي والتفخيخ والتفجير. أبدًا.. كانت بفضل شعب رواندي مُسلم تعرض تاريخيًا للاضطهاد، فلم يقنط، للتهميش فلم يرفع سلاح. وعندما وقعت الإبادة وكانت الفرصة سانحة للانتقام، كان ملاذًا لمن عادوه، حكمًا يعدل، وجسرًا يصل ما مزقه الدم. جهاده كان ورقة وقلما وقرآنا يُتلي ومسجدا يُرفع فيه الأذان وتصدح من منابره دعوات التصالح والسلام..
وبينما كسبت دعوة الإسلام بفضل سلوك مسلمي رواندا أتباعًا بمئات الآلاف وسمعة لا تشوبها شائبة من أقصى الأرض لأدناها. يخسر الإسلام بذنب الدواعش يومًا تلو الآخر أتباعًا من داخله، ومريدين محتملين من خارجه، فضلًا عن موجة شك لا تخطئها عين، وعداء آخذ في النمو في جميع أنحاء العالم.
نحتاج أكثر من أي وقت مضى استرجاع الموقف الأخلاقي للمسلمين في رواندا لتذكير أنفسنا قبل غيرنا بماهية الإسلام ولننفض عنه ما شاب سمعته جراء أفعال الدواعش. ورغم مشاعر الحزن والألم التي تخلفها ذكرى الإبادة، لابد على كل مسلم أن يفخر بما فعله إخوانه في رواندا. وإذا كانت الذكري العشرين التي حلت قبل شهرين مناسبة لتذكير العالم الغربي بزيف تحضره. فهي مناسبة أيضًا لتذكيرنا بعظمة ديننا وسمو قيمه أمام كل ما يتعرض له من محاولات تشويه من أتباعه قبل خصومه.
لسنا إرهابيين، ديننا دين سلام وإخاء منذ أن نزلت الرسالة على محمد، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. ولو كره الداعشيون
"عبده فايد"
"عبده فايد"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق